فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة العصر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [1- 3].
{وَالْعَصْرِ} أي: الدهر، أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارّة والمارّة. ولذا قيل له: أبو العجب. ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها. فينبّه الْإِنْسَاْن على أنه مستعد للخسران والسعادة. وللتنويه به والتعظيم من شأنه، تعريضاً ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم. كما قيل:
يَعيبون الزمان وليسَ فيه ** معيب غير أهلٍ للزمان

وجوّز أن يراد بالعصر الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر.
قال الإمام: كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم، وقد يكون في حديثهم مالا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضاً. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، كما اعتاد الناس أن يقولوا: زمان مشؤوم، و: وقت نحس، و: دهر سوء، وما يشبه ذلك. بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يُذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة!
{إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ} أي: خسران، لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر، وإضاعة الباقي في الفاني.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله وبما أنزل من الحق، إيماناً مُلك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم، كما قال: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قال القاشانيّ: أي: من الفضائل والخيرات، أي: اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم.
{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي: أوصى بعضهم بعضاً بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي: على ما يبلوا الله به عباده، أو على الحق، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته.
تنبيهات:
الأول: قال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة قال الشافعي رضي الله عنه: لو فكر الناس كلهم في هذه الصورة لكفتهم، وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:
إحداها: معرفة الحق. الثانية: عمله به.
الثالثة: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا، وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة. وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى. وتواصوا بالحق، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبة رابعة.
وهذا نهاية الكمال. فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه، مكملاً لغيره. وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان. وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة- على اختصارها- هي من أجمع سورة القرآن للخير بحذافيره. والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه، شافيا من كل داء، هاديا إلى كل خير. انتهى.
الثاني: قال الرازي: هذه السورة فيها وعيد شديد. وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة. وهي: الإيمان، والعمل الصالح، التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور. وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه، فكذلك يلزمه في غيره أمور: منها الدعاء إلى الدين، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه. والأول الأمر بالمعروف، والثاني النهي عن المنكر. ومنه قوله تعالى: {وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 147]، وقال عمر: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي.
الثالث: قال الرازي: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن التواصي بالصبر.
الرابع: تخصص التواصي بالحق والصبر، من اندراجهما في الأعمال الصالحة، لإبراز كمال الاعتناء بهما.
قال الإمام: من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر، لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر. والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة. فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم، ويمكنوه من قلوبهم، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه، بأن يدعو كلٌّ صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها ولا دليل يهدي إليها، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام، وهذا إطلاق للعقل من كل قيد، مع اشتراط التدقيق في النظر، لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم. ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين. كم ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل.
والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة، إن كان في نيلها ما يخالف حقا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها. واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع. فشرط النجاة من الخسران أن تصبر، وأن توصي غيرك بالصبر، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة، التي هي أم الفضائل بأسرها، ولا يمكنك حمله على ذلك حتى تكون بنفسك متحليّاً بها، وإلا دخلت في من يقول ولا يفعل كما يقول، فلم تكن ممن يعمل الصالحات. انتهى.
الخامس: قال الإمام: إنما قال: {وَتَوَاصَوْا}، ولم يقل: وأوصوا؛ ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق، ليوصي صاحبه بطلبه يهمه أن يرى الحق فيقبله، فكأن في هذه العبارة الجزلة قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم.
السادس: قال ابن كثير: ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبيد الله بن حصن، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الأخر سورة العصر إلى آخرها. ثم يسلم أحدهما على الآخر. قال الإمام: قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك، وهو خطأ، وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صحابه بما ورد فيها، خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، حتى يجتلب منه قبل التفرق، وصية خير لو كانت عنده.
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره، فعلى من أراد التوسع في أسرارها، أن يرجع إليه.

.سورة الهمزة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [1- 3].
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} أي: لكل من يطعن في أعراض الناس ويغتابهم. أصله من الهمز بمعنى الكسر، ومن اللمز بمعنى الطعن الحقيقيين، ثم استعير لذلك ثم صار حقيقة عرفية فيه. قال زياد الأعجم:
تُدْلى بِوُدٍّ إذا لا قيتَني كِذباً ** وإِن أُغَيَّبْ فأنت الهامِزُ اللُّمَزهْ

وبناء فُعَلَة يدل على أن ذلك عادة منهُ قد ضَريَ بها، لأنه من صيغ المبالغة، والآية عني بها من كان من المشركين بمكة، همازاً لمازاً. كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29- 30]، وقوله:
{هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] الآيات، فالسبب وإن يكن خاصاً، إلا أن الوعيد عام يتناول كل من باشر ذلك القبيح. وسرّ وروده عاماً ليكون جاريًا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه.
{الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} أي: أحصى عدده ولم ينفقه في وجوه البر.
قال الإمام: أي: أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده. أي: عده مرة بعد أخرى، شغفاً به وتلذذاً بإحصائه؛ لأنه لا يرى عزاً ولا شرفاً ولا مجداً في سواه، فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذي فضل ومزيه دونه، فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه، ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض؛ لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي: يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه، مخلدهُ في الدنيا، فمزيل عنه الموت.

.تفسير الآيات (4- 9):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [4- 9].
{كَلَّا} أي: فليرتدع عن هذا الحسبان، فإن الأمر ليس كما ظن، بل لابد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال، كما قال: {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أي: ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها، أي: تكسرهُ. وكلمة النبذ تفيد التحقير والتصغير.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} استفهام عنها لتهويل أمرها، كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول.
{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} أي: هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، لأنه هو مُنشئُها في عالم لا يعلمهُ سواهُ.
قال أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانهُ، ووصفها بالايقاد، من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه.
{الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال ابن جرير: أي: التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى، حكي عن العرب سماعاً: متى طَلَعت أرضنا، و: طلعتُ أرضي، بلغتُ.
وقال الزمخشري: يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب. ولا شيء في بدن الْإِنْسَاْن ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألماً منهُ بأدنى أذى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه!! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها موطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة، أو تطالع، على سبيل المجاز معادن موجبها.
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي: مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها.
{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} صفة لمؤصدة، أو حال من الضمير المجرور، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله: والمعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج، وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب، وتمدد على العمد، استيثاقاً في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممدة، مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص.
والمقاطر جمع مَقطرة، بالفتح، وهي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم، وتقطر، أي: يجعل كلٌّ بجنب آخر، و{عَمَدٍ} قرئ بضم العين والميم وفتحهما.
قال ابن جرير: وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، ولغتان صحيحتان، والعرب تجمع العمود عُمُداً وعَمَداً، بضم الحرفين وفتحهما، كما تفعل في جمع إهاب تجمعهُ أُهُباً وأهَباً.
تنبيه:
قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة، ما مثاله: الهمز أي: الكسر من أعراض الناس واللمز، أي: الطعن فيهم، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر؛ لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس، وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها. فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم، ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة، فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية.
ثم قال: وفي قوله:
{وَعَدَّدَهُ} إشارة أيضاً إلى الجهل؛ لأن الذي جعل المال عدة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب؛ لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات، فكيف يدفعها؟ وكذا في قوله:
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي: لا يشعر أن المقتضيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنهُ مخدوع بطول الأمل، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل. والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية، أصل جميع الرذائل، ومستلزم لها. فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره.

.سورة الفيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [1- 5].
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم. كما سيأتي.
قال أبو السعود: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها. والرؤية علمية، أي: ألم تعلم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدة والعيان، باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه، بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن ذلك من الإرهاصات؛ لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما سنأثره.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} بيان إجمالي لما فعل بهم، أي: ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا، وتدميرهم أشد تدمير.
قال الرازي: اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية. إن قيل: لِششم سماهُ كيداً وأمرهُ كان ظاهراً، فإنهُ كان يصرح أنهُ يهدم البيت؟ قلنا: نعم، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر؛ لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة، منهم ومن بلدهم، إلى نفسه وإلى بلدته {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أي: طوائف متفرقة، يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى، وأبابيل جمع لا واحد له، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء. وزعم أبو جعفر الرؤاسي- وكان ثقة- أنه سمع واحدها إبالة، بكسر الهمزة وتشديد الموحدة. وهي حزمة الحطب، استعير لجماعة الطير. وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها أبول، وعن آخرين: أبيل، سماعاً كما أثره ابن جرير. والتنكير في {طَيْراً} إما للتحقير، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر، أو للتفخيم، كأنه يقول: وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل، أفاده الرازي.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} أي: من طين متحجر. وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعني بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل.
قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجهاً في خبر ولا عقل ولا لغة. وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} قال ابن جرير: كزرع أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم، وتفرق آراب أبدانهم بها، بتفرق أجزاء الروث، الذي حدث عن أكل الزرع.
قال الشهاب: ولم يذكر الروث لهُجتنه، فجاء على الآداب القرآنية. وفيه إظهار تشويه حالهم.
وقال أبو مسلم: العصف التين، لقوله: {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12]، لأنه تعصف به الريح عند الذرّ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولاً فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه. انتهى.
ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى: كزرع قد أكل حبهُ وبقي تبنه، والتقدير كعصف مأكول الحب، كما يقال فلان حسن الوجه، فأجرى {مَّأْكُولٍ} على العصف من أجل أنه أكل حبه؛ لأن هذا المعنى معلوم. ومنها أيضاً أن معنى {مَّأْكُولٍ} مما يؤكل، يعني تأكله الدواب، يقال لكل ما يصلح للأكل وهو مأكول، والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك، أشار له الرازي.
تنبيهات:
الأول: كان السبب الذي من أجله حلَّت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل، مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل على بيت الله الحرام لتخريبه. وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية، حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: ولد عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك. وتفصيل نبئها ما أثره ابن هشام: أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي، وكان ذا دين في النصرانية، فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب للنجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها- أي: أحدث فيها- ثم خرج فلحق بأرضه. فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب غليه بمكة، لما سمع قولك: أصرف إليها حج العرب، غضب فجاء فقعد فيها، أي: أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقاً عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتى به أسيراً، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيراً لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق- وكان أبرهة رجلاً حليماً- ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرص نفيل ابن حبيب الخثعميّ في قبيلي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيراً، فأتى به، فلما همَّ بقتله، قال له نفيل: أيها الملك! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلة خثعم: شهران وناهس، بالسماع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله، حتى إذا مرَّ بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجاله ثقيف، فقالوا له: أيها الملك! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم- واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة- فبعثوا معه أبا رغال يدلُّه على الطريق إلى مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمَّس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك: فَرجمت قبره العرب- فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس- فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمَّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم.
فإن هو لم يرد حربي فأتني به، فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها؟ فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام- أو كما قال- فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله! ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقاً حتى دخل عليه وهو في محبسه. فقال له: يا ذا نفر! هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً وعشياً، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيساً سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة: يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال. وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته. قال: فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟. قال عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل وإن للبيت رباً سيمنعهُ. قال: وما كان ليمتنع مني؟ قال: أنت وذاك. وكان، فيما يزعم أهل العلم، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة- يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هزيل- فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك أم لا.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له. فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعُف الجبال والشعاب، تخوفاً عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هُمّ أن العبد يمـ**ـنع رَحْلَهُ فامنع حلالكْ

لا يغلبنّ صَليبُهُم ** ومحالهُمُ عَدْواً مِحالك

ٍإن كنت تاركهم وقب**لتَنَا فأَمرٌ ما بد لك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيَّأ فيله وعبَّى جيشه، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمين، فلمَّا وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه، فقال له: ابرُك، أو: ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل: وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم، فضربوا رأسه ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها- أي: أدموه- ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمين فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجههوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله تعالى طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحداً إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالبُ ** والأشرم المغلوبُ ليس الغالبْ

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنمُلةً أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تَمُثُّ- أي: تسيل- قيحاً ودماً حتى، قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب، ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان مما يَعُدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} السورة.
ثم قال ابن إسحاق: فلما ردّ الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم. فقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة، وما ردّ عن قريش من كيدهم. ثم ساق القصائد في ذلك.
وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق؛ لأنه أحسن اقتصاصاً وأبلغ سبكاً، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها، فرحمه الله ورضي عنه.
التنبيه الثاني: إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل واشتهرت به؛ لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب، فإنه لو تم لقائديه كيدهم، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ؛ وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام، فإذا غضبوا على محارب أسروه، أو وزير أوثقوه، أو بلد ونازلوا حصنه أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه، وقواعد البنيان فيهدمها، فيكون أمضى من معاول وفؤوس، وأعظم رعباً ورهبة في النفوس، وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه، فأعمل فيه نابه، ولف عليه خرطومه وشاله، ومثَّل به تمثيلاً كان أشد بطشاً وتنكيلاً. وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام.
الثالث: قال القاشانيّ: قصة أصحاب الفيل مشهورة، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه، وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الْإِنْسَاْن لكون نفوسهم ساذجة. وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر. ومن اطلع على عالم القدرة، وكشف له حجاب الحكمة، عرف لمية أمثال هذه.
قال: وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر.
الرابع: قال الإمام الماوردي في أعلام النبوة: آيات الملك باهرة، وشواهد النبوات قاهرة، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق، ولا منتحل بمحق، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأناً، وأظهرها برهاناً، وأشهرها عياناً وبياناً أصحاب الفيل، أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه على مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة. وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملاً في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل، فكانت آيته في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملاً ووليداً. والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيساً للنبوة وتعظيماً للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكاً للحج.
فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكاً، ولم يمنع الحَجَّاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكاً حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟
قيل: فعل الحَجاج كان بعد استقرار الدِّين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول «قد أنذر بهدمها» فصار الهدم آية ًبعد أن كان المنع آية، فلذلك اختلف حكمها في الحالين، والله تعالى اعلم.
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفاً وتعظيماً، فصاروا أئمة ديانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين. وكان شأن الفيل رادعاً لكل باغ ودافعاً لكل طاغ. وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل، منهم حكيم بن حزام، وحاطب بن عبد العزى، ونوفل بن معاوية؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة: منها ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، انتهى.
الخامس: ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل: روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي نهبط به على قريش، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا: خلأت القصواء- أي: حرنت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، قال ابن الأثير في النهاية: هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم، وردَّ رأسه راجعاً من حيث جاء. يعني أن الله حبس ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية، فلم تتقدم ولم تدخل الحرم؛ لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين. وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».